فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (105):

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كان التقدير التفاتًا إلى مقام العظمة إعلامًا بأن القضاء كله بيده لئلا يظن نقص في نفوذ الكلمة: فانظروا ما صرفنا لكم في هذه السورة من الآيات وأوضحنا بها من شريف الدلالات، لقد أتينا فيها بعجائب التصاريف وكشفنا عن غرائب التعاريف، عطف عليه قوله: {وكذلك} أي ومثل هذا التصريف العظيم {نصرف} أي ننقل جميع {الآيات} من حال إلى حال في المعاني المتنوعة سالكين من وجوه البراهين ما يفوت القوى ويعجز القُدَر لتحير ألباب المارقين وتنطلس أفكار المانعين، علمًا منهم بأنهم عجزة عن الإتيان بما يدانيها فتلزمهم الحجة {وليقولوا} اعتداء لا عن ظهور عجزهم دارست أي غيرك من أهل الكتاب أو غيرهم في هذا حتى انتظم لك هذا الانتظام وتم لك هذا التمام، فيأتوا ببهتان بيّن عواره ظاهرة أسراره، مهتوكة أستاره، فيكونوا كأنهم قالوا: إنك أتيت به عن علم ونحن جاهلون لا نعلم شيئًا، فيعلم كل موفق أنهم ما رضوه لأنفسهم مع ادعاء الصدق والمنافسة في البعد عن أوصاف الكذب إلا لفرط الحيرة وتناهي الدهشة وإعواز القادح، والحاصل أنه أتى به على هذا المنهاج الغريب والأسلوب العجيب ليعمى ناس عن بينة ويبصر آخرون، وهم المرادون بقوله: {ولنبينه} أي القرآن لأنه المراد بالآيات المسموعة {لقوم يعلمون} أي أن المراد من الإبلاغ في البيان أن يزداد الجهلة به جهلًا، ويهتدي من كان للعلم أهلًا، فلا يقولون: دارست بل يقولون: إنه من عند الله، فالآية من الاحتباك: إثبات ادعاء المدارسة أولًا يدل على نفيها ثانيًا، وإثبات العلم ثانيًا يدل على عدمه أولًا، وهي من معنى {يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا} [البقرة: 26]. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في الإلهيات إلى هذا الموضع شرع من هذا الموضع في إثبات النبوات فبدأ تعالى بحكاية شبهات المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فالشبهة الأولى: قولهم يا محمد إن هذا القرآن الذي جئتنا به كلام تستفيده من مدارسة العلماء ومباحثة الفضلاء، وتنظمه من عند نفسك، ثم تقرأه علينا، وتزعم أنه وحي نزل عليك من الله تعالى، ثم أنه تعالى أجاب عنه بالوجوه الكثيرة، فهذا تقرير النظم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن المراد من قوله: {وكذلك نُصَرّفُ الأيات} يعني أنه تعالى يأتي بها متواترة حالًا بعد حال. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وكذلك نُصَرِّفُ الآيات} الكاف في كذلك في موضع نصب؛ أي نصرف الآيات مثل ما تلونا عليك.
أي كما صرفنا الآيات في الوعد والوعيد والوعظ والتّنبيه في هذه السورة نصرف في غيرها. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وكذلك نصرف الآيات} أي ومثل ما بينا تلك الآيات التي هي بصائر وصرفناها نصرف الآيات ونرددها على وجوه كثيرة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وكذلك نُصَرّفُ الآيات} أي مثلَ ذلك التصريفِ البديعِ نصرِّف الآياتِ الدالةَ على المعاني الرائقةِ الكاشفةِ عن الحقائق الفائقةِ لا تصريفًا أدنى منه. اهـ.

.قال الألوسي:

{وكذلك} أي مثل ذلك التصريف البديع {نُصَرّفُ الآيات} الدالة على المعاني الرائقة الكاشفة عن الحقائق الفائقة لا تصريفًا أدنى منه.
وقيل: المراد كما صرفنا الآيات قبل نصرف هذه الآيات، وقد تقدم لك ما هو الحري بالقبول.
وأصل التصريف كما قال علي بن عيسى إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة من الصرف وهو نقل الشيء من حال إلى حال.
وقال الراغب: التصريف كالصرف إلا في التكثير وأكثر ما يقال في صرف الشيء من حال إلى حال وأمر إلى أمر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ} جملة معترضة تذييلًا لما قَبلها.
والواو اعتراضية فهو متّصل بجملة: {قد جاءكم بصائر من ربّكم} [الأنعام: 104] الّتي هي من خطاب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بتقدير قل كما تقدّم، والإشارة بقوله: {وكذلك} إلى التّصريف المأخوذ من قوله: {نُصرّف الآيات} أي ومثلَ ذلك التّصريف نُصرّف الآيات.
وتقدّم نظيره غير مرّة وأوّلها قوله: {وكذلك جعلناكم أمّة وسَطا} في سورة [البقرة: 143].
والقول في تصريف الآيات تقدّم في قوله تعالى: {انظر كيف نصرّف الآيات} في هذه السّورة [46]. اهـ.

.قال الفخر:

فيه مباحث:
البحث الأول: حكى الواحدي: في قوله درس الكتاب قولين: الأول: قال الأصمعي أصله من قولهم: درس الطعام إذا داسه، يدرسه دراسًا والدراس الدياس بلغة أهل الشام قال: ودرس الكلام من هذا أي يدرسه فيخف على لسانه.
والثاني: قال أبو الهيثم درست الكتاب أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه، من قولهم درست الثوب أدرسه درسًا فهو مدروس ودريس، أي أخلقته، ومنه قيل للثوب الخلق دريس لأنه قد لان، والدراسة الرياضة، ومنه درست السورة حتى حفظتها، ثم قال الواحدي: وهذا القول قريب مما قاله الأصمعي بل هو نفسه لأن المعنى يعود فيه إلى الدليل والتليين.
البحث الثاني: قرأ ابن كثير وأبو عمرو دارست بالألف ونصب التاء، وهو قراءة ابن عباس ومجاهد وتفسيرها قرأت على اليهود وقرؤا عليك، وجرت بينك وبينهم مدارسة ومذاكرة، ويقوي هذه القراءة قوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه وَأَعَانَهُ عليه قوم آخرون} [الفرقان: 4] وقرأ ابن عامر {دَرَسْتَ} أي هذه الأخبار التي تلوتها علينا قديمة قد درست وانمحت، ومضت من الدرس الذي هو تعفي الأثر وإمحاء الرسم، قال الأزهري من قرأ {دَرَسْتَ} فمعناه تقادمت أي هذا الذي تتلوه علينا قد تقادم وتطاول وهو من قولهم درس الأثر يدرس دروسًا.
واعلم أن صاحب الكشاف روى هاهنا قراءات أخرى: فإحداها: {دَرَسْتَ} بضم الراء مبالغة في {دَرَسْتَ} أي اشتد دروسها.
وثانيها: {دَرَسْتَ} على البناء للمفعول بمعنى قدمت وعفت.
وثالثها: {دارست} وفسروها بدارست اليهود محمدًا.
ورابعها: {درس} أي درس محمد.
وخامسها: {دارسات} على معنى هي دارسات أي قديمات أو ذات درس كعيشة راضية.
البحث الثالث: الواو في قوله: {وَلِيَقُولُواْ} عطف على مضمر والتقدير وكذلك نصرف الآيات لنلزمهم الحجة وليقولوا فحذف المعطوف عليه لوضوح معناه.
البحث الرابع: اعلم أنه تعالى قال: {وكذلك نُصَرّفُ الأيات} ثم ذكر الوجه الذي لأجله صرف هذه الآيات وهو أمران: أحدهما قوله تعالى: {وَلِيَقُولُواْ} والثاني قوله: {دَرَسْتَ وَلِنُبَيّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أما هذا الوجه الثاني فلا إشكال فيه لأنه تعالى بين أن الحكمة في هذا التصريف أن يظهر منه البيان والفهم والعلم.
وإنما الكلام في الوجه الأول وهو قوله: {وَلِيَقُولُواْ دارست} لأن قولهم للرسول دارست كفر منهم بالقرآن والرسول، وعند هذا الكلام عاد بحث مسألة الجبر والقدر.
فأما أصحابنا فإنهم أجروا الكلام على ظاهره فقالوا معناه إنا ذكرنا هذه الدلائل حالًا بعد حال ليقول بعضهم دارست فيزداد كفرًا على كفر، وتثبيتًا لبعضهم فيزداد إيمانًا على إيمان، ونظيره قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] وقوله: {وَأَمَّا الذين في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] وأما المعتزلة فقد تحيروا.
قال الجبائي والقاضي: وليس فيه إلا أحد وجهين: الأول: أن يحمل هذا الإثبات على النفي، والتقدير: وكذلك نصرف الآيات لئلا يقولوا درست.
ونظيره قوله تعالى: {يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} ومعناه: لئلا تضلوا.
والثاني: أن تحمل هذه اللام على لام العاقبة.
والتقدير: أن عاقبة أمرهم عند تصريفنا هذه الآيات أن يقولوا هذا القول مستندين إلى اختيارهم، عادلين عما يلزم من النظر في هذه الدلائل.
هذا غاية كلام القوم في هذا الباب.
ولقائل أن يقول: أما الجواب الأول فضعيف من وجهين: الأول: أن حمل الإثبات على النفي تحريف لكلام الله وتغيير له، وفتح هذا الباب يوجب أن لا يبقى وثوق لا بنفيه ولا بإثباته، وذلك يخرجه عن كونه حجة وأنه باطل.
والثاني: أن بتقدير أن يجوز هذا النوع من التصرف في الجملة، إلا أنه غير لائق ألبتة بهذا الموضع، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يظهر آيات القرآن نجمًا نجما، والكفار كانوا يقولون: إن محمدًا يضم هذه الآيات بعضها إلى بعض ويتفكر فيها ويصلحها آية فآية ثم يظهرها، ولو كان هذا بوحي نازل إليه من السماء، فلم لايأتي بهذا القرآن دفعة واحدة؟ كما أن موسى عليه السلام أتى بالتوراة دفعة واحدة.
إذا عرفت هذا فنقول: إن تصريف هذه الآيات حالًا فحالًا هي التي أوقعت الشبهة للقوم في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، إنما يأتي بهذا القرآن على سبيل المدارسة مع التفكر والمذاكرة مع أقوام آخرين وعلى ما يقول الجبائي والقاضي فإنه يقتضي أن يكون تصريف هذه الآيات حالًا بعد حال يوجب أن يمتنعوا من القول بأن محمدًا عليه الصلاة والسلام إنما أتى بهذا القرآن على سبيل المدارسة والمذاكرة.
فثبت أن الجواب الذي ذكره إنما يصح لو جعلنا تصريف الآيات علة لأن يمتنعوا من ذلك القول، مع أنا بينا أن تصريف الآيات، هو الموجب لذلك القول فسقط هذا الكلام.
وأما الجواب الثاني: وهو حمل اللام على لام العاقبة، فهو أيضًا بعيد لأن حمل هذه اللام على لام العاقبة مجاز، وحمله على لام الغرض حقيقة، والحقيقة أقوى من المجاز فلو قلنا: اللام في قوله: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} لام العاقبة في قوله: {وَلِنُبَيّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} للحقيقة فقد حصل تقديم المجاز على الحقيقة في الذكر وأنه لا يجوز.
فثبت بما ذكرنا ضعف هذين الجوابين وأن الحق ما ذكرنا أن المراد منه عين المذكور في قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} ومما يؤكد هذا التأويل قوله: {وَلِنُبَيّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} يعني أنا ما بيناه إلا لهؤلاء، فأما الذين لا يعلمون فما بينا هذه الآيات لهم، ولما دل هذا على أنه تعالى ما جعله بيانًا إلا للمؤمنين ثبت أنه جعله ضلالًا للكافرين وذلك ما قلنا. والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ}.
الواو للعطف على مضمر؛ أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست.
وقيل: أي {ولِيقولوا درست} صرفناها؛ فهي لام الصيرورة.
وقال الزجاج: هذا كما تقول كتب فلان هذا الكتاب لحتفه؛ أي آل أمره إلى ذلك.
وكذا لما صرفت الآيات آل أمرهم إلى أن قالوا: درست وتعلمت من جَبْر ويَسَار، وكانا غلامين نصرانيين بمكة، فقال أهل مكة: إنما يتعلم منهما.
قال النحاس: وفي المعنى قول آخر حسن، وهو أن يكون معنى {نُصَرِّفُ الآيَاتِ} نأتي بها آية بعد آيةٍ ليقولوا درست علينا؛ فيذكرون الأوّل بالآخر.
فهذا حقيقة، والذي قاله أبو إسحاق مجاز.
وفي {دَرَسْت} سبع قراءاتٍ:
قرأ أبو عمرو وابن كَثير {دارست} بالألف بين الدال والراء، كفاعلت.
وهي قراءة عليّ وابن عباس وسعيدِ بن جبير ومجاهدٍ وعكرمة وأهلِ مكة.
قال ابن عباس: معنى {دَارَسْت} تاليت.
وقرأ ابن عامر {دَرَسَتْ} بفتح السين وإسكان التاء من غير ألف؛ كخَرَجَتْ.
وهي قراءة الحسن.
وقرأ الباقون {دَرَسْتَ} كخرَجْت.
فعلى الأولى: دارست أهلَ الكتاب ودارسوك؛ أي ذاكرتهم وذاكروك؛ قاله سعيد ابن جبير.
ودلّ على هذا المعنى قوله تعالى إخبارًا عنهم: {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4] أي أعان اليهودُ النبيّ صلى الله عليه وسلم على القرآن وذاكروه فيه.